إنَّ من رحمة الله تعالى بنَا أنَّه لم يفرضْ علينا شيئًا إلاَّ وكان فيه فائدة عظيمة لنا . نعم ، فالله سُبحانه الذي خلَقَنا ، هو وحده الذي يعرفُ بالضَّبط ما تحتاجه أبداننا وأنفسنا في كلّ الحالات .
وإذا كنتَ يا أخي ربَّما تتكاسلُ عن أداء الصَّلاة في وقتها بدعْوَى أنّها تُرهقُ بدنَكَ أو تُعيقكَ عن الدّراسة أو العمل ، فاعلَمْ أنَّ العِلْم الحديث بَيَّن ، بالعكس ، أنَّها أفضلُ طريقة للوقاية، وأيضًا للعلاج، من العديد من الأمراض البدنيَّة والنَّفسيَّة ، وأنَّها خَيْرُ مُعين على العمل والدّراسة !
فعلى مستوى البدن ، تُوفّر الصَّلاة للمصلّي على الأقلّ خَمْس فُرَص يوميَّة مُنتظمة لكي يقوم بتمارين رياضيَّة ، لو عَلم النَّاسُ ما فيها من فوائد عظيمة ، لَمَا تأخَّروا عن القيام بها لحظة واحدة ! وهذا النّظام الرّياضي لا يمكنُ أن يتوفَّر إلاَّ للمُسلم !
نعم ، فعمليَّةُ الرُّكوع ثمَّ الرَّفع منه ، والسُّجود ثمَّ الرَّفع منه ، والجلوس للتَّشهُّد ، مرَّات متتالية في اليوم ، تُقوّي العمود الفقاري خاصَّة ، وكلّ عضلات الجسم عامَّة ، وتُنشّط الدَّورة الدَّمويَّة في كامل البدن ما في ذلك الأطراف .
وقد زار مرَّةً طبيبٌ فرنسي القاهرة ورأى المسلمين يُصلُّون في المساجد ، فعاد إلى بلده وأصبح يَنصحُ مرضاه الذين يُعانون من آلام في الظَّهر ، بالقيام بنَفْس حركات الصَّلاة ، عدَّة مرَّات في اليوم ! وقام طبيبٌ آخر مصري ببحث أثبتَ فيه علميّا أنَّ الصَّلاة تَقي صاحبها من مرض دَوالي السَّاقَيْن .
ثمَّ إنَّ وَضْعَ الوَجه على الأرض ورَفْعه ، مرَّات متتالية في اليوم ، يُنشّط الدَّورة الدَّمويَّة في شرايين الدّماغ ، ويُوقظُ الذّهن . وهذا ما لا يُتاح لغير المسلم الذي يبقَى رأسُه طول اليوم في الأعلَى .
ومع ظهور وسائل النَّقل الحديثة ، أصبح الإنسان قليل المشي والحركة ، وبالتَّالي مُعرَّضًا أكثر للإصابة بجَلْطَة قلبيَّة أو بانسداد في شرايين القلب نتيجة رُسوب الشُّحوم بها . فتأتي الصَّلاة كَوقاية فعْليَّة من هذه الأمراض ، لأنَّها تنشّط الدَّورة الدَّمويَّة ، فتَطْرُد بذلك الفضلات والشُّحوم بشكل مُستمرّ .
ولكنَّ هذه الفوائد لا تتحقَّق إلاَّ إذا أُدّيت الصَّلاةُ في وَقتها دون تأخير ، عملاً بقول الله تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } (4-النّساء : 103) .
ويجبُ أيضًا أن تُؤَدَّى بتأنٍّ وطُمأنينة ، على الصّفَة التي جاءتْ في رواية للإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم دخلَ المسجد، فدخلَ رجلٌ فصلَّى ، ثمَّ جاء فسلَّم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم . فرَدَّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليه السَّلامَ وقال : ارجعْ فصَلّ فإنَّكَ لم تُصلّ ! فرجعَ الرَّجلُ فصلَّى كما كان صلَّى ، ثمَّ جاء إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسلَّم عليه . فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : وعليكَ السَّلام ، ثمَّ قال : ارجعْ فصلّ فإنَّكَ لم تُصلّ ، حتَّى فعلَ ذلكَ ثلاث مرَّات !
فقال الرَّجلُ : والذي بعثكَ بالحقّ ما أُحسِِنُ غير هذا ، علّمْني . فقال (أي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم) : إذا قُمتَ إلى الصَّلاة فكَبّرْ ، ثمَّ اقْرأ ما تيسَّر معك من القرآن ، ثمَّ اركَعْ حتَّى تطمئنَّ راكعًا ، ثمَّ ارفَعْ حتَّى تعتدلَ قائمًا ، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا ، ثمَّ ارفَعْ حتَّى تطمئنَّ جالسًا ، ثمَّ افعلْ ذلك في صلاتك كلّها . (صحيح مسلم - الجزء 1 - ص 298 - رقم الحديث 397) .
وإذا كانت فوائدُ الصَّلاة على البَدن عظيمة ، فإنَّ فوائدها على النَّفس لا تُقدَّر بثَمن ! فهي أوَّلاً تُتيح للمصلّي فُرَصًا عديدة في اليوم لقراءة ما تَيَسَّر من القرآن الكريم الذي يَصفُهُ الله تعالى بقَوله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } (17- الإسراء 82) .
وكلُّ مَن تَعوَّد أن يقرأ القرآن بتَدبُّر أو يستمع إليه بانتباه من قارئ آخر ، يعرفُ جيّدًا كَمْ له من تأثير حَسَن على النَّفس . بل إنَّه يَشفي فعْلاً من الأزمات النَّفسيَّة التي يمكن أن يتعرَّض لها المسلم في حياته اليوميَّة ، عند مَوْت قريب أو فقدان عمل أو ضياع مال أو خوف شديد من شيء ما .
يقول تعالى في آية أخرى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } (41- فصّلت 44) .
ثمَّ إنَّ منْ بين أفعال الصَّلاة أنَّ المصلّي ، عندما يسجد واضعًا جبهته على الأرض ، له أن يَدعُو اللهَ بما يشاء من حاجاته الدُّنيويَّة والأخرويَّة ، له ولغيره ، مباشرةً ودون أيّ واسطة !
نعم ، يدعُو اللهَ أن يُوَفّقه في دراسته أو عمله ، أو يرزقَه مالاً طيّبًا ، أو يكتُبَه من أصحاب الجنَّة ، أو يشفي والده من مرضه ، أو يأخذ له حقَّه مِمَّن ظلَمه . وهو في دعائه هذا ، يكُون على يقين تامٍّ أنَّ الله ينظر إليه في ذلك الوقت ويسمعُ دعاءه ، وأنَّه قادرٌ على أن يُعطيه ما طلب .
أيضًا ، كلُّنا يَمرُّ في حياته بعدَّة أوقات يشعُر فيها بحاجة أكيدة إلى صديق يتحدَّث إليه ويُفرغ له ما في نفسه من هموم وأحزان ، لأنَّ الكبتَ يُوَلّد الانفجار وربَّما الانتحار . فتأتي الصَّلاةُ كوَسيلة جيّدة لتخفيف الضّغط عن النَّفس ، عبر التَّحدُّث إلى الله سبحانه الذي يملكُ كلَّ شيء ، والقادر على كلّ شيء ، والمتصرّف في كلّ شيء . فيبثُّ المصلّي شجونَه وأحزانه إلى الله ، ويبكي بحرارة ، ولا ينتهي من صلاته إلاَّ وقد ارتاح نفسيّا من الهمّ الذي كان يشكُو منه !
ولكنَّ المصَلّي لا يُمكن له أن يَجْني هذه الفوائد النَّفسيَّة إلاَّ إذا كان خاشعًا في صلاته . يقول تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ 1 الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ 2 } (23- المؤمنون 1-2) .
والخشوعُ في الصَّلاة هو حضور الذّهن فيها ، وعدم التَّفكير في أيّ شيء من أمور الدُّنيا . وهذه أيضًا فائدة أخرى عظيمة من فوائد الصَّلاة ، فهي تُوَفّر للمصلّي على الأقلّ خَمْس فُرَص في اليوم لكي ينقطع تمامًا عن مشاغل وهموم الدُّنيا ، فيخفّ الضَّغطُ عن دماغه وترتاح أعصابه . وهذا الانقطاع عن العالَم الخارجي هو ما يُسمَّى اليوم علْميّا بالاسترخاء، ويلجأ إليه العديد من النَّاس لإراحة أعصابهم .
وإذا كان للصَّلاة تأثير جيّدٌ وكبيرٌ على النَّفس ، فإنَّ تأثيرها يتعدَّى ذلك إلى السُّلوك ليُهذّبَه . يقول تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } (29- العنكبوت 45) .
فالمسلمُ الذي يؤدّي صلاته في وقتها بطمأنينة وخشوع ، يَستحي أن يُقابلَ ربَّه في الصَّلاة الموالية وقد غشَّ في عمله أو كذب على غيره ! وإذا غلَبتْه نفسُه وارتكبَ ذنبًا صغيرًا ، فإنَّه يُسارع إلى التَّوبة منه قبل أن يَقف أمام خالقه من جديد . أمَّا الذُّنوب الكبيرة ، فمن المستحيل تقريبًا أن يَقْربَها .
هل عرفْتَ الآن يا أخي الكريم لماذا تُعتبَرُ الصّلاةُ عمودًا من الأعمدة الخمسة التي يرتكزُ عليها الإسلام ؟
للأسف ، كثيرٌ من المسلمين اليوم يجهلُون قيمتها ، فتراهُم يُؤَدُّونها متكاسلين وبعد فوات وقتها ، بلا اطمئنان ولا خشوع ، فلا يَجنُون منها أيّ فائدة ، ولا يدرون أنَّهم بهذا يُسيئون كثيرًا إلى أنفسهم .. وإلى دينهم !
أ